presse4

تونس ما بعد الثورة.. التعاون.. بين الفرد والمجتمع
بقلم محسن الكعبيإن العلاقة التي ينشئها الإسلام بين الفرد و المجتمع ، هي علاقة تكافل و تعاون ، مبنيةعلى المسؤولية المتبادلة ، انطلاقا من قوله تعالى : المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض..التوبة -71 ، وقول الرّسول صلى الله عليه و سلم : كلّكم راع و كلّكم مسؤول عن رعيّته .
و بقدر ما تكون حقوق الفرد مصونة ، و حاجاته مضمونة ، بقدر ما يكون إخلاصه لهذا المجتمع و تفانيه في خدمته و حفظ كيانه..أو هكذا ينبغي أن يكون .. لأن المجتمع الذي يوفّر الكرامة لأفراده ، ويشملهم في ظلاله الوارفة، و أكنافه الحانية ، يستوجب منهم أن يكونوا له أوفياء ، و على مصالحه أمناء ، يحرصون على أمنه و سلامته و استقراره ، و يدفعون عنه غوائل الشرّ و المحن و الاضطراب.
ولا أعني بذلك ، أن تكون المصلحة المادية هي محور العلاقة بين الفرد و المجتمع ، رغم أهميتها القصوى .. لأنّ الموالاة الحقيقيّة هي، إنّما تنبثق من شيء هو أعظم و أسمى من المادّة، ألا وهو الإيمان بالله، و الاعتصام بحبله و هديه المتين.
و من هنا نقول: إن التديّن في الفرد، وإقامة أحكام الله في المجتمع، عصمة ما مثلها عصمة.. و وقاية من علل التفرّق و الانحراف و الأفكار الهدّامة و الصّراعات التي نشهدها في كثير من المجتمعات ..ذات الصّبغة المادّية البحتة ، أو العلمانية التي ترفض أن يكون للدّين دوره في الحياة و المجتمع.
و لو بحثنا عن روح التديّن و جوهره الأصيل، لوجدنا أن التّعاون مع الناس على فعل الخير هو الصّبغة العملية النّاصعة، التي تترجم معنى التديّن في الواقع، وتبرهن عن فاعليته في الحياة.. و صدق رسول الله صلّى الله عليه و سلّم حيث يقول: الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله، أنفعهم لعياله.
أجل.. انّه لكذلك حقا..إذ أنّ من طبيعة الإيمان و التديّن الحق، أن يفيض صاحبه بالخير على من حوله، وأن يشعّ بنوره في كل اتّجاه..فإذا كانت غاية المؤمن هي حبّ الله و مرضاته ، فانّ أكثر النّاس نفعا لعبادالله ، هو الجدير بأن يتبوّأ تلك المنزلة ، ويرتقي ذلك المقام الرفيع.
و هذا- و لا شك- يفتح أمام المسلم آفاقا واسعة للتقرّب إلى الله، و يعطيه حوافز قويّة، لكي يفعل الخير و يستزيد منه، لأنّه يعلم أنّه بقدر ما يفعل الخير للنّاس، بقدر ما يحبّه الله، و يحيطه بفضله و رضاه.
و كل مجتمع أيّا كان، يضمّ بين جوانحه الغنيّ و الفقير، و القويّ و الضّعيف، والشّريف و الوضيع..و أنّ أولى النّاس بالعون هم ذوو الحاجة من العجزة و الضّعفاء و المساكين، الذّين وصفهم الله تبارك و تعالى بأنّهم: لا يستطيعون حيلة، و لا يهتدون سبيلا. النّساء98، و في الحديث: تنصرون و ترزقون بضعفائكم<.. و تتّسع دائرة التّعاون الاجتماعي في نظر الإسلام ، لتشمل كلّ معروف و كلّ إحسان ، يصنعه المرء للتفريج عن مكروب ، أو غوث ملهوف ، أو تيسير كلّ معسر، أو رفع ضرر أو شفاعة في خير أو نحو ذلك من أعمال البرّ و الصّلاح. و ينطوي هذا المعنى على اتّساعه ، في قول الرّسول صلّى الله عليه و سلّم : المسلم أخ المسلم ، لا يظلمه و لا يسلمه ، من كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربة ،فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة. إنّ التّعاليم الإسلامية الكثيرة التي تحثّ على التّعاون و التّضامن ، لو أخذ بها المسلمون و طبّقوها في حياتهم ، لكان مجتمعهم مثالا يحتذى ..في التّقدم و الرّقي ..و في كلّ وجوه الخير<.. و من العجيب أن نرى المجتمعات الغربية تسبق مجتمعاتنا في هذا المجال، فتقوم فيها المؤسّسات التعاونية على اختلافها وتنوّعها..في التّجارة و الزّراعة و الاقتصاد و العلم و الصّناعة و الخدمات الاجتماعية و الصحيّة و التربويّة .. و غير ذلك.. و كان هذا أولى بالمسلمين ، اللذين يأمرهم دينهم بالتّعاون على البرّ و التّقوى ، ويحضّهم على الأخذ بأسباب القوّة والوحدة والتكافل.. حتى يكتفوا ذاتيّا ، و يحتلّوا مكانهم اللاّئق بهم فوق الأرض و تحت الشّمس.. و لقد حذّر الرّسول صلى الله عليه و سلم أمّته أن تكون عالة على غيرها فقال : ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ، و لا تكون كلا عن النّاس. وانظر إلى العبارة الأخيرة في الحديث، فإنّها خطاب يشمل الفرد و الجماعة.. أمّا على صعيد الفرد ، فانّه لا يجوز أن يعيش المرء يتكفّف النّاس ، وهو قادر على الكسب ، وأمامه فرص العمل متاحة.. و أمّا على صعيد الجماعة، فذاك لا يجوز أن تكون الأمّة مستهلكة غير منتجة، تعتمد على غيرها في كل شيء. إنّ السّبيل الذي ينقذ الفرد كما ينقذ الجماعة من هذا الوضع غير السّوي، هو التّعاون القائم على روح الأخوّة و الثّقة المتبادلة، و المصلحة المشتركة بين الجميع .. و ذلك لعمري هو ما تفتقده أمّتنا اليوم، و ما نحن بأشد الحاجة إليه في عصرنا هذا، الذي تسوده التكتّلات في كل مكان. و لنستمعإلى رسولنا محمّد صلّى الله عليه و سلّم و هو يخاطبنا قائلا: يد الله مع الجماعة. وفي حديث آخر : فعليك بالجماعة ، فإنّما يأكل الذئب القاصيّة. ورغم أن الحديث وارد في صلاة الجماعة، إلا أنه يتضمن إشارة إلى المنهج المطلوب في حياة المسلم، وهو العمل من خلال الجماعة..لأن صلاة الجماعة، مدرسة بحدّ ذاتها، يتعلم منها المسلم كيف يعيش عضوا فاعلا متعاونا متضامنا مع الآخرين في مجتمعه..لانجاز المهمّات الكبيرة ، والمشروعات العظيمة .. التي تعود عليهم جميعا بالخير العميم..في دينهم و دنياهم على السّواء..و صدق من قال : المرء ضعيف بنفسه ، قويّ بإخوانه. *ضابط مهندس بالأكاديمية العسكرية سابقا